فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ}
اعلم أن في الآية مسائل:
المسألة الأولى:
اعلم أن في قوله: {أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله} وجوهًا: الأول: أن يكون مفعولًا له والتقدير: كتاب أحكمت آياته ثم فصلت لأجل ألا تعبدوا إلا الله وأقول هذا التأويل يدل على أنه لا مقصود من هذا الكتاب الشريف إلا هذا الحرف الواحد، فكل من صرف عمره إلى سائر المطالب، فقد خاب وخسر.
الثاني: أن تكون (أن) مفسرة لأن في تفصيل الآيات معنى القول والحمل على هذا أولى، لأن قوله: {وَأَنِ استغفروا} معطوف على قوله: {أَلاَّ تَعْبُدُواْ} فيجب أن يكون معناه: أي لا تعبدوا ليكون الأمر معطوفًا على النهي، فإن كونه بمعنى لئلا تعبدوا يمنع عطف الأمر عليه.
والثالث: أن يكون التقدير: الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ليأمر الناس أن لا يعبدوا إلا الله ويقول لهم، إنني لكم منه نذير وبشير، والله أعلم.
المسألة الثانية:
اعلم أن هذه الآية مشتملة على التكليف من وجوه: الأول: أنه تعالى أمر بأن لا يعبدوا إلا الله، وإذا قلنا: الاستثناء من النفي إثبات، كان معنى هذا الكلام النهي عن عبادة غير الله تعالى، والأمر بعبادة الله تعالى، وذلك هو الحق، لأنا بينا أن ما سوى الله فهو محدث مخلوق مربوب، وإنما حصل بتكوين الله وإيجاده، والعبادة عبارة عن إظهار الخضوع والخشوع ونهاية التواضع والتذلل وهذا لا يليق إلا بالخالق المدبر الرحيم المحسن، فثبت أن عبادة غير الله منكرة، والإعراض عن عبادة الله منكر.
واعلم أن عبادة الله مشروطة بتحصيل معرفة الله تعالى قبل العبادة، لأن من لا يعرف معبوده لا ينتفع بعبادته فكان الأمر بعبادة الله أمرًا بتحصيل المعرفة أولًا.
ونظيره قوله تعالى في أول سورة البقرة: {يا أيها الناس اعبدوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21] ثم أتبعه بالدلائل الدالة على وجود الصانع وهو قوله: {الذى خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ} [البقرة: 21] إنما حسن ذلك لأن الأمر بالعبادة يتضمن الأمر بتحصيل المعرفة فلا جرم ذكر ما يدل على تحصيل المعرفة.
ثم قال: {إِنَّنِى لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} وفيه مباحث:
البحث الأول:
أن الضمير في قوله: {مِنْهُ} عائد إلى الحكيم الخبير، والمعنى: إنني لكم نذير وبشير من جهته.
البحث الثاني:
أن قوله: {أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله} مشتمل على المنع عن عبادة غير الله، وعلى الترغيب في عبادة الله تعالى، فهو عليه الصلاة والسلام نذير على الأول بإلحاق العذاب الشديد لمن لم يأت بها وبشير على الثاني بإلحاق الثواب العظيم لمن أتى بها.
واعلم أنه صلى الله عليه وسلم ما بعث إلا لهذين الأمرين، وهو الإنذار على فعل ما لا ينبغي، والبشارة على فعل ما ينبغي. اهـ.

.قال الماوردي:

{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ}
قوله عز وجل: {الر كِتَابٌ} يعني القرآن.
{أُحْكِمَتْ ءَايَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} فيه خمسة تأويلات:
أحدها: أحكمت آياته بالأمر والنهي ثم فصلت بالثواب والعقاب، قاله الحسن.
الثاني: أحكمت آياته من الباطل ثم فصلت بالحلال والحرام والطاعة والمعصية، وهذا قول قتادة.
الثالث: أحكمت آياته بأن جعلت آيات هذه السورة كلها محكمة ثم فصلت بأن فسرت، وهذا معنى قول مجاهد.
الرابع: أحكمت آياته للمعتبرين، وفصلت آياته للمتقين. الخامس: أحكمت آياته في القلوب، وفصلت أحكامه على الأبدان.
{مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} فيه وجهان:
أحدهما: من عند حكيم في أفعاله، خبير بمصالح عباده.
الثاني: حكيم بما أنزل، خبير بمن يتقبل.
قوله عز وجل: {أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ} فيه وجهان:
أحدهما: أن كتبت في الكتاب: {أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ}
الثاني: أنه أمر رسوله أن يقول للناس: {أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ}.
{إنَّنِي لَكُم مِّنُهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} قال ابن عباس: نذير من النار، وبشير بالجنة. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}
فأما: {آلر} فقد ذكرنا تفسيرها في سورة يونس.
قال الفراء: و: {كتاب} مرفوع بالهجاء الذي قبله، كأنك قلت: حروف الهجاء هذا القرآن، وإِن شئت رفعته بإضمار هذا كتاب، والكتاب: القرآن.
وفي قوله: {أحكمت آياته} أربعة أقوال:
أحدها: أُحكمت فما تُنسخُ بكتاب كما نُسخت الكتب والشرائع، قاله ابن عباس، واختاره ابن قتيبة.
والثاني: أُحكمت بالأمر والنهي، قاله الحسن، وأبو العالية.
والثالث: أُحكمت عن الباطل، أي: مُنعت، قاله قتادة، ومقاتل.
والرابع: أُحكمت بمعنى جُمعت، قاله ابن زيد.
فإن قيل: كيف عمَّ الآيات هاهنا بالإِحكام، وخص بعضها في قوله: {منه آيات محكمات} [آل عمران: 8]؟ فعنه جوابان.
أحدهما: أن الإِحكام الذي عمَّ به هاهنا، غير الذي خَصَّ به هناك.
وفي معنى الإِحكام العامّ خمسة أقوال، قد أسلفنا منها أربعة في قوله: {أُحكمت آياته}.
والخامس: أنه إِعجاز النظم والبلاغة وتضمين الحِكَم المعجزة.
ومعنى الإِحكام الخاص: زوال اللَّبْس، واستواء السامعين في معرفة معنى الآية.
والجواب الثاني: أن الإِحكام في الموضعين بمعنى واحد.
والمراد بقوله: {أُحكمت آياته}: أُحكم بعضها بالبيان الواضح ومنع الالتباس، فأُوقعَ العمومُ على معنى الخصوص، كما تقول العرب: قد أكلتُ طعام زيد، يعنون: بعضَ طعامه، ويقولون: قُتلنا وربِّ الكعبة، يعنون: قُتل بعضنا، ذكر ذلك ابن الأنباري.
وفي قوله: {ثم فصِّلت} ستة أقوال:
أحدها: فصِّلت بالحلال والحرام، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: فصِّلت بالثواب والعقاب، رواه جسر بن فرقد عن الحسن.
والثالث: فصِّلت بالوعد والوعيد، رواه أبو بكر الهذلي عن الحسن أيضًا.
والرابع: فصِّلت بمعنى فسِّرت، قاله مجاهد.
والخامس: أُنزلت شيئًا بعد شيء، ولم تنزل جملة، ذكره ابن قتيبة.
والسادس: فصِّلت بجميع ما يُحتاج إِليه من الدلالة على التوحيد، وتثبيت نبوَّة الأنبياء، وإِقامة الشرائع، قاله الزجاج.
قوله تعالى: {من لدن حكيم} أي: من عنده.
قوله تعالى: {ألاّ تعبُدوا إِلا الله} قال الفراء.
المعنى: فصِّلت آياته بأن لا تعبدوا إِلا الله: {وأن استغفروا}.
وأن في موضع النصب بالقائك الخافض.
وقال الزجاج: المعنى: آمركم أن لا تعبدوا إِلا الله وأن استغفروا.
قال مقاتل: والمراد بهذه العبادة: التوحيد.
والخطاب لكفار مكة. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {الر}.
تقدّم القول فيه.
{كِتَابٌ} بمعنى هذا كتاب.
{أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} في موضع رفع نعت لكتاب.
وأحسن ما قيل في معنى: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} قول قَتَادة؛ أي جعلت محكمة كلّها لا خَلَل فيها ولا باطل.
والإحكام منع القول من الفساد، أي نُظمت نظمًا مُحْكَمًا لا يلحقها تناقض ولا خَلَل.
وقال ابن عباس: أي لم ينسخها كتاب، بخلاف التوراة والإنجيل.
وعلى هذا فالمعنى؛ أُحكم بعض آياته بأن جعل ناسخًا غير منسوخ.
وقد تقدّم القول فيه.
وقد يقع اسم الجنس على النوع؛ فيقال: أكلت طعام زيد؛ أي بعض طعامه.
وقال الحسن وأبو العالية: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} بالأمر والنهي.
{ثُمَّ فُصِّلَتْ} بالوعد والوعيد والثواب والعقاب.
وقال قتادة: أحكمها الله من الباطل، ثم فصّلها بالحلال والحرام.
مجاهد: أحكمت جملة، ثم بُيِّنت بذكر آية آية بجميع ما يحتاج إِليه من الدليل على التوحيد والنبوّة والبعث وغيرها.
وقيل: جمعت في اللوح المحفوظ، ثم فصلت في التنزيل.
وقيل: {فُصِّلت} أنزلت نَجْمًا نَجْمًا لتُتَدبَّر.
وقرأ عكرمة {فَصَلَتْ} مخففًا أي حَكَمت بالحق.
{مِن لَّدُنْ} أي من عند.
{حَكِيمٍ} أي محكم للأمور.
{خَبِيرٍ} بكل كائن وغير كائن.
قوله تعالى: {أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ الله} قال الكسائيّ والفرّاء.
أي بألا؛ أي أحكمت ثم فصّلت بألا تعبدوا إِلا الله.
قال الزجاج: لئلا؛ أي أحكمت ثم فصّلت لئلا تعبدوا إلا الله.
قيل: أمر رسوله أن يقول للناس ألا تعبدوا إلا الله.
{إِنَّنِي لَكُمْ مِّنْهُ} أي من الله.
{نَذِيرٌ} أي مخوف من عذابه وسطوته لمن عصاه.
{وَبَشِيرٌ} بالرضوان والجنة لمن أطاعه.
وقيل: هو من قول الله أوّلًا وآخرًا؛ أي لا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير؛ أي الله نذير لكم من عبادة غيره، كما قال: {وَيُحَذِّرْكُمُ الله نَفْسَهُ} [آل عمران: 28]. اهـ.

.قال الخازن:

قوله: {الر كتاب أحكمت آياته}
قال ابن عباس: لم ينسخها كتاب كما نسخت هي الكتب والشرائع: {ثم فصلت} يعني بينت وقال الحسن: أحكمت آياته بالآمر والنهي وفصلت بالثواب والعقاب وفي رواية عنه بالعكس، قال: أحكمت بالثواب والعقاب وفصلت بالأمر والنهي، وقال قتادة: أحكمها الله من الباطل ثم فصلها بعلمه فبين حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته فيها وقيل: أحكمها الله فليس فيها تناقض ثم فصلها وبينها وقيل معناه نظمت آياته نظمًا رصينًا محكمًا بحيث لا يقع فيه نقض ولا خلل كالبناء المحكم الذي ليس فيه خلل ثم فصلت آياته سورة سورة وقيل إن آيات هذا الكتاب دالة على التوحيد وصحة النبوة والمعاد وأحوال القيامة وكل ذلك لا يدخله النسخ ثم فصلت بدلائل الأحكام والمواعظ والقصص والإخبار عن المغيبات، وقال مجاهد: فصلت بمعنى فسرت وثم في قوله ثم فصلت ليست هي للتراخي في الوقت ولكن في الحال كما تقول هي محكمة أحسن الإحكام ثم مفصلة أحسن التفصيل فإن قلت كيف عم الآيات هنا بالأحكام وخص بعضها في قوله منه آيات محكمات.
قلت: إن الإحكام الذي عم به هنا غير الذي خص به هناك فمعنى الإحكام العام هنا أنه لا يتطرق إلى آياته التناقض والفساد كأحكام البناء فإن هذا الكتاب نسخ جميع الكتب المتقدمة عليه والمراد بالإحكام الخاص المذكور في قوله منه آيات محكمات أن بعض آياته منسوخة نسخها بآيات منه أيضًا لم ينسخها غيره وقيل أحكمت آياته أي معظم آياته محكمة وإن كان قد دخل النسخ على البعض فأجرى الكل على البعض لأن الحكم للغالب وإجراء الكل على البعض مستعمل في كلامهم تقول أكلت طعام زيد وإنما أكلت بعضه.
وقوله تعالى: {من لدن حكيم} يعني أحكمت آيات الكتاب من عند حكيم في جميع أفعاله: {خبير} يعني بأحوال عباده وما يصلحهم.
{ألا تعبدوا إلا الله}
هذا مفعول له معناه كتاب أحكمت آياته ثم فصلت لئلا تعبدوا إلا الله والمراد بالعبادة التوحيد وخلع الأنداد والأصنام وما كانوا يعبدون والرجوع إلى الله تعالى وإلى عبادته والدخول في دين الإسلام: {إنني لكم منه} أي: قل لهم يا محمد إنني لكم من عند الله: {نذير} ينذركم عقابه إن ثبتم على كفركم ولم ترجعوا عنه: {وبشير} يعني وأبشر بالثواب الجزيل لمن آمن بالله ورسوله وأطاع وأخلص العمل لله وحده. اهـ.